كتبت: منة الله هاشم
يُعد المتحف القبطي بمثابة نافذة فريدة على تاريخ المسيحية في مصر، فهو أكبر متحف للآثار القبطية في العالم، وقد تم افتتاحه في سنة ١٩١٠. يضم المتحف مجموعات متنوعة ونادرة من الفن القبطي، الذي يحكي قصة امتزاج الفن المصري بالروح المسيحية، ويقع في قلب منطقة مصر القديمة، وتحديدًا داخل أسوار حصن بابليون، وهي منطقة تاريخية تحتضن بين جنباتها معالم دينية تمثل مختلف الأديان.
بدأ تأسيس المتحف في زمن الفرس، لكن أُجريت عليه العديد من الإضافات في عهد الإمبراطورين الرومانيين أغسطس وتراجان، ثم استكمل الإضافات من جاء بعدهم من أباطرة الرومان. وقد لعب العالم الفرنسي "ماسبيرو" دورًا هامًا في نشأة المتحف، حيث عمل على جمع أعمال الفن القبطي وتخصيص قاعة لها داخل المتحف المصري. وبعد ذلك، طالب مرقس باشا سميكة عام ١٨٩٣م بأن تضم مجموعة الآثار القبطية إلى اهتمامات لجنة حفظ الآثار والفنون، وجاهد طويلاً حتى تمكن من إقامة المبنى الحالي للمتحف الذي افتُتح عام ١٩١٠، وعُيّن هو أول مدير له.
أُنشئ المتحف على أرضٍ تابعة للكنيسة القبطية الأرثوذكسية المشرقية، وقد أهداها له البابا كيرلس الخامس، وكان يتكون في بدايته من حجرتين داخل الكنيسة المعلقة، نظرًا لأهمية المكان وعظمته التاريخية. وظل المتحف تابعًا للإدارة البطريركية القبطية حتى عام ١٩٣١، ثم انتقلت تبعيته إلى وزارة المعرفة الثقافية. وفي عام ١٩٤٧، أُنشئ الجناح الجديد، وتبعت ذلك عمليات تطوير للجناحين القديم والجديد، ليُعاد افتتاحه عام ١٩٨٤. وفي عام ١٩٩٢، وقع أكبر زلزال شهدته مصر في العصر الحديث، ما تسبب في تدمير جزء كبير من المتحف، فاضطر المسؤولون إلى إغلاقه، وبدأت عمليات الترميم التي انتهت بافتتاحه مجددًا عام ٢٠٠٦، بعد إغلاق دام أربعة عشر عامًا.
يتألف المتحف من مبنيين يربط بينهما ممر صغير، وينقسم إلى ست وعشرين قاعة عُرضت فيها المقتنيات داخل فاترينات مرتبة بعناية. وتتنوع هذه المقتنيات ما بين الأيقونات، وأهمها الأيقونات المرسومة مباشرة على ألواح الخشب، والتي تُعد من أقدم وأندر ما يضمه المتحف. كما يحتوي قسم الأخشاب على أفاريز مزخرفة بمناظر نيلية، وأقدم مذبح خشبي معروف. أما قسم الأحجار فيضم قطعًا نادرة من العصور المسيحية المختلفة، تعكس تطوّر فن النحت والعمارة القبطية. ويضم قسم المخطوطات كنزًا ثمينًا من التراث القبطي، يشمل نحو سبعمائة كتاب، وألف وثيقة، وخمسمائة وثمانٍ وسبعين ورقة بردي، جميعها محفوظة بعناية داخل مكتبة المتحف. ويعرض قسم المعادن عددًا من القطع المذهلة مثل الأبواب المصفحة بالبرونز، وكرسي فخم، وقبة مذبح مزخرفة. كما يحتوي قسم المنسوجات على مجموعة فريدة من الأقمشة المطرزة التي تحمل رموزًا مسيحية دقيقة الصنع. وفي قسم العاج والعظم، توجد العديد من الأواني المنحوتة بدقة، بينما يعرض قسم الفخار والخزف أواني مختلفة الأحجام والأشكال، استخدمت في الحياة اليومية. أما قسم الزجاج، فيحتوي على أوانٍ زجاجية دقيقة وكؤوس، وأوعية، وشمعدانات، ومسارج تعكس جمال الصناعة اليدوية القبطية.
ويضم المتحف ما يقرب من ستة عشر ألف مقتنى، وقد تم ترتيبها تبعًا لأنواعها إلى اثني عشر قسمًا، عُرضت بأسلوب علمي يراعي التسلسل الزمني قدر الإمكان. ومن بين أبرز هذه المقتنيات، يأتي كتاب مزامير داود، الذي أُفردت له قاعة مستقلة نظرًا لأهميته التاريخية والدينية، ويُعدّ من أقدم الكتب المسيحية المكتوبة على الرق. كما تضم القاعات لوحات القلالي، وهي لوحات كانت تُستخدم من قبل الرهبان في أديرتهم، وقد عُرض عدد منها في الممرات لسهولة مشاهدتها. كذلك تحتوي القاعات على مجموعة من المخطوطات القبطية النادرة، وقطعة نسيج مزينة برموز مسيحية تمثل اندماج الفن بالدين. وفي الجناح القديم، يمكن مشاهدة مجموعة فريدة من قطع الأثاث الخشبية والأبواب المطعمة التي تعكس جمال الصناعة القبطية القديمة، ومن أبرزها الباب المصنوع من خشب الجميز، الذي كان مخصصًا لحامل الأيقونات في كنيسة القديسة بربارة، ويُعدّ قطعة فنية فريدة من نوعها من حيث التصميم والدقة.
يُعد المتحف القبطي صرحًا ثقافيًا فريدًا يضم كنوزًا فنية وتاريخية لا تُقدّر بثمن، تُجسد التفاعل المميز بين حضارات متعاقبة كالفراعنة واليونان والرومان والمسلمين. وتُبرز معروضاته جمال الفن القبطي وثراءه، بينما تسهم الورش والمعارض التي تُقام داخله في جذب الزوار وتعريفهم بهذا التراث العريق. فزيارة المتحف ليست مجرد جولة بين القاعات، بل هي رحلة ممتعة عبر الزمن تمنحنا فهمًا أعمق لتاريخ مصر وتنوعها الثقافي والفني.
تعليقات
إرسال تعليق